مذكرات مهاجر مجهول (7)
كتب : د.أشرف يعقوب
أديت امتحان القبول في دراسة الدكتوراه باللغة الانجليزية رغم أن لغتي الايطالية كانت معقولة ولكن على مستوى الاتصال والتخاطب فقط. إنما لغتي العلمية فكانت الإنجليزية والتي درست بواسطتها في كل سنين كلية الطب والماجستير. نجحت في الامتحان وقبلت، وأعفوني من امتحان اللغة الإنجليزية والذي كان إجباري للأطباء الإيطاليين الذين أدوا امتحان القبول معي.
وأنا بدأت في تعلم اللغة الايطالية بدافع الفضول ليس إلا. قلت في نفسي أعمل مع طاقم طبي إيطالي فلماذا لا أتعلم اللغة الايطالية؟ وذلك أيضًا لأن معظمهم كان لا يعرف اللغة الإنجليزية جيدًا.
قالت لي إحدى قريباتي وكانت تدرس اللغة الفرنسية في الجامعة أنها تدرس الإيطالية كلغة ثانية فطلبت منها الكتاب الذي تدرس فيه هذه اللغة. أعطتني كتاب قالت أن عليها أن تدرسه في اربع سنوات ، فدرسته أنا في ستة أشهر. ولم يكن عندي أي هدف وقتها غير الاستمتاع بتعلم لغة جديدة. فتعلم لغة جديدة مثل فتح الضوء على عالم جديد كان مظلمًا ومخفيًا عنك ولم تكن تعرف عنه شيئًا من قبل. فجأة عالمك يصبح عالمين, ومن ثم يصبح ثلاثة، وأربعة، وهكذا بعدد اللغات التي تتعلمها. وفي نظري تعلم اللغات الجديدة من أمتع النشاطات البشرية. وأقدر أقول أنني الآن أستطيع أن أتواصل بطريقة مفيدة بالعربية، والإنجليزية والايطالية والفرنسية والإسبانية. وأنا الان ادرس اللغات البولندية لأن زوجتي الحالية بولندية. وأدرس أيضا التركية والفارسية لأني أرى أن علينا أن نتعلم لغة شرقية، إسلامية، أخرى وخاصة إن هذه اللغات قريبة جدًا من العربية. وهذا يزيد من معرفتنا لثقافتنا الإسلامية عموما والعربية خاصة.
نعم، تعلم لغة اخري يفيدك أيضًا في التعمق والتعرف أكثر على لغتك الأم.
وعندما وصلت لإيطاليا أول مرة في يونيو١٩٩٠ ، ذهبت بالاتوبيس من المطار إلى محطة "ترميني" في وسط روما ، ووجدت طابور طويل أمام شباك التذاكر وفي نفس الوقت كان هناك قطار الساعة الرابعة والذي يصل لوجهتي، مدينة مستره بالقرب من فينيسيا، الساعة الحادية عشر مساءً، على وشك القيام، فقررت ركوبه بدون تذكرة. وبعد قيامه بحوالي نصف ساعة ، بينما كنت انظر بشغف للتلال الجميلة القريبة من روما، ظهرت كمسارية القطار وسألتني عن تذكرتي، فحكيت لها ما حدث، وقلت لها سأدفع التذكرة الآن واعرف أني يجب أن ادفع غرامة لذلك. قالت لي وهل تعرف أنها ٤٠ الف ليرة، فاستكثرت المبلغ ( يماثل ٢٠ يورو) وهو مبلغ كبير وقتها. فقلت لها أمري لله سأدفع. فسألتني من كام سنة وأنت في إيطاليا وكيف لا تعرف إن غرامات القطارات غالية جدا، متى وصلت لإيطاليا؟ فأجبتها اني وصلت إيطاليا من حوالي ساعة ونصف. فاستغربت هي وجميع الحاضرين وقالت لي "أنت من ساعة ونصف فقط في إيطاليا وتتكلم الايطالية بطلاقة هكذا، شئ غريب؟" قلت لها هذه هي الحقيقة ووسط دهشتها ودهشة الركاب الآخرين أعطيت لها مبلغ الأربعين الف ليرة.
لا تستغربوا ضخامة المبلغ فالطليان قبل اليورو كانوا كلهم مليونيرات ، وكنت أنا أيضًا من ذوي الملايين حيث كان مرتبي مليون ومئتين ألف ليرة في الشهر ، يعني حوالي ٦٠٠ يورووهومبلغ كان معقول جدا وقتها.
وبدأت العمل والدراسة في وحدة القسطرة، من الثامنة مساءً وحتى الرابعة بعد الظهر. كان العمل متواصل، مريض بعد الآخر على طاولة جهاز الأشعة، وبدأت أن أساعد في تحريك الطاولة لوضع المنطقة المراد تصوريها بالأشعة تحت الكاميرا بالضبط. وكانت مناورة تحتاج سرعة ودقة، وكان الصعب فيها هو أنك يجب أن تفعل كل شيء على عكس ما يتصوره عقلك. فإذا كان المطلوب تحريك المريض، حسب ما يراه منطق عقلك، إلى ناحية اليمين كان يجب عليك تحريك الطاولة إلى ناحية اليسار ، وإذا كان يجب أن تحركه أفقيا إلى جهة الإمام كان يجب عليك تحريك الطاولة الى جهة الخلف، وكان هذا صعبا جدًا في أول الأمر. وخاصة أن من يمسك بالقسطرة داخل قلب المريض يطلب منك أداء ذلك بسرعة نتيجة خوفه من أن تفشل العملية. ولكني بحمد الله استطعت التعود على ذلك بسرعة.
وكان معي طالب دكتوراه اخر ، كنا نحن الاثنين فقط في الواقع، اسمه ألبرتوريميني، وسألته أمامي الدكتورة رئيسة الوحدة بطريقة غير لطيفة:"هل أنت يهودي يا ألبرتو؟" فرد عليها بنعم. فقالت ضاحكة: " مصري ويهودي في وحدتي، أتمنى ألا تتشاجران"
البرتو هو يهودي إيطالي، وكما علمت فيما بعد أن اليهود في إيطاليا غيروا ألقابهم اليهودية الصرفة إلى اسماء المدن التي استقروا أو ولدوا فيها. وذلك للهروب من الاضطهاد بسبب الديانة. و"ريميني" هي مدينة إيطالية على ساحل البحر الادرياتيكي استقر فيها أهل هذا الطبيب عند وصولهم من إسبانيا بعد ما حدث من طرد المسلمين واليهود من شبه جزيرة أيبيريا.
كان ألبرتو معوقاً منذ الولادة نتيجة تناول والدته لعقار التليدوميد أثناء حملها له، وهذا العقار الذي كان يستخدم كمهدئ للقيئ أثناء الحمل في الستينيات أدى إلى تشوهات خلقية في آلاف الأطفال الذين أخذت امهاتهم هذا العقار اثناء الحمل. كان في يد ألبرتو اليمنى ثلاث أصابع فقط ولكن هذا لم يمنعه من أن يتخصص في القسطرة القلبية وكان يستخدم يده اليمني بكل سهولة وبراعة. ولكني فكرت "يهودي وذوعاهة" وكل ذوعاهة جبار فتوجست خيفة منه وتوقعت مشاكل معه.
