ونستمر …. بفضل الدكتور أنس البن نقدم محاولة في قراءة نجيب محفوظ .. بقلم بهجت العبيدي
بهجت العبيدي المصريين بالخارجواليوم ننشر هنا على صفحات موقعنا الأثير: المصريين بالخارج قصة قصيرة "أقصوصة" كان قد نشرها راهب الفكر الدكتور أنس البن على صفحته - بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك - ثرية الفكر ومتنوعة المواضيع، كما ننشر محاولتنا لفك رموز هذه القصة، والتي تحتمل ما غيرها من أدب الفذ نجيب محفوظ أكثر من قراءة، نظرا لعبقريّة الكاتب الذي من أخص خصائص أعماله أنها كثيفة الدلالات متنوعة القراءات… فلنستمع بما أبدعه محفوظ العالمي وما أحالنا له المثقف الموسوعي الدكتور أنس البن
الرجل الوحيد
قصه قصيره للكاتب الراحل
نجيب محفوظ
أقدم إليكم نفسي. أنا إبليس. لا حاجة بي إلى مزيد، حکایتي معروفة لديكم من قديم. رسالتي في الحياة مشهورة كالشمس إلى يوم الدين. غَمرتْني الدهشة، ولفَّتني الحَيْرة مذ تناهى إليَّ أنه يُوجد رجلٌ شريف في بلدكم، رغم كل ما قيل ويُقال. وتفاديًا من سوء الفهم أُصارِحكم بأنَّه لا فضل لي ألبتة في تفجُّر طوفان الشر الذي أغرق الجميع. تكفَّلَت بذلك كله بدعٌ جديدة، لم تخطر ببالي قديمًا، وأنا أُذعِن لقدَري؛ فأتحدَّى ثم أستمهل. فعلَت هذه البدع في جيلٍ ما أعجز عن فعله في أجيال وأجيال. كان إغواء رجل أو امرأة يقتضيني بذل الجهد، وتجريب شتى الحِيَل. لكني شَهِدتُ الناس يندفعون بجنون نحو الهاوية، ويتساقطون جماعاتٍ وطوائف دون أن تنبِس شفتاي بكلمة، أو تندَّ عني حركة. انغمس الجميع في الوحل وأنا أنظر مبهوتًا مذهولًا، ضاربًا كفًّا على كَف. أعترف بأنه عهدٌ عظيم حقًّا، ونصرٌ مُبين بلا جدال، وكم تمنَّيْتُ أن أكون علَّته ومُحرِّكه وصاحبَ الفضل فيه، ما هذا الذي يجري؟ من أين جاء هذا الفساد كله؟ أعترف مرةً أخرى بأنَّ الزمن قد تغيَّر، وأنه يجيء كل يوم بالعجيب والمُبهر. عليَّ من الآن فصاعدًا أن أدرُس الاقتصاد والسياسية، وأتمرَّس بالخطابة والتصريحات، وأُلِّم بالعلوم والتكنولوجيا، والمقاولات، والعمولات، ووسائل الهروب إلى الخارج. يجبُ أن أُوسِّع من مجالي الثقافي وأغيِّر وسائلي العتيقة، وإلا غُلبتُ على أمري، وفقدتُ مُسوِّغ وجودي، وانطوى عصياني الخالد بلا ثمرة أو أثر.
وإذ أنا على تلك الحال من الكآبة والحَيْرة أبلغَتْني العيون بأنَّه يُوجد رجل شريف في البلد. قالوا: اسمه محمد زین، مهنته قاضٍ، مَسكَنه رقم ١٥ بشارع زین العابدين.
في الحال راقَبتُه بعناية، مسكنه بيتٌ قديم لا يليق بوظيفته. نشأ فيه مع الأسرة، ثم بقي له وحده بعد رحيلِ مَن رحل، فاعتبَره سترًا من الله في زمن السُّكنى في المقابر والخيام، متزوج، له ابنٌ في الجامعة وابنٌ وابنةٌ في المرحلة الثانوية. يذهبُ إلى المحكمة مستقلًّا الباص، فيُغادِره قبل محطة المحكمة بمحطةٍ حتى لا يُرى، وهو يتملَّص من زحمة الركَّاب مُتأبِّطًا حقيبته. يفتتح الجلسة في میعادها المُعلَن عنه، ويتابع مناقشات النيابة والدفاع والشهود بعناية وتركيز عجيبَين. عدا ذلك فهو لا يكاد يُغادر بيته إلا حين الضرورة، ليواصل دراسة القضايا من ناحية، وتوفيرًا للإنفاق من ناحيةٍ أخرى. بث روح العمل والتقشُّف في أولاده، فلا يتميَّزون بشيء عن أولاد الفقراء. عمومًا البيت تُغلِّفه البساطة القصوى في مظهره وملبسه وطعامه. وزوجته تتصبَّر في امتعاض، وتُروِّح عن نفسها بالتشكِّي حينًا، وبلَعنِ الزمن حينًا آخر، لكنه يقول لها :
-- مُرتَّبي كلُّه بين يديكِ، لا أستطيع أن أُحوِّل المعادن الخسيسة إلى ذهب، ولا أسأل عن الغلاء الضاري، وأخيرًا فإنني أعيش في رحاب الله، وأصون ذاتي عن التلَف حتى النفَس الأخير.
رجلٌ كبير ومسكين معًا. تُحدِق به المُغريات من كل جانب كالماء والهواء. إن عز عليَّ الاقتحام فأمامي الزَّوجة والأبناء، ثم إنها أسرةٌ واعية تمامًا بما يدور حولها. إليكَ حديثًا دار على انفراد بين الرجل وامرأته؛ تقول :
-- أي أرض هذه الأرض؟! أيُكتب علينا كل هذا العَناء لا لشيء إلا لأننا شرفاء!
فيقول بحزمٍ قاطع :
-- هذا نصيب الشرفاء في الزمن الجهنَّمي.
– الجميع لصوص، أنتَ تعرف ذلك جيدًّا.
– أي نعم، الجميع لصوص.
– والنهاية؟
– لا أملك إلا الصبر.
إنه اعتراض على ما يجري، واحتجاج على الشرف في آنٍ. الابنة نفسها تسمع الكثير، وتقرأ الصحيفة، وتقف طويلًا أمام الحوادث. تتساءل :
-- هل يتيسَّر الزواج في هذه الظروف القاسية؟
لن يتعذَّر عليَّ أن أسوق إليها شابًّا غاويًا، أو زميلةً ذات خبرة بالشقق المفروشة. لكنَّ الشابَّين يقفان على حافة التمرُّد: اللصوص آمنون، يعبثون فوق القانون، القانون مسكين ولا يُطبَّق إلا على المساكين.
– الأبواب مُفتَّحة لأبنائهم، ولهم وحدهم الفُرص الطيِّبة.
– ولنا المعاناة والكلمات الكاذبة المعسولة.
– أبونا رجل شريف، وقاضٍ شريف أضعف من مجرمٍ غني.
سُررتُ بما سمعتُ، وتحفَّزتُ للعمل. كل شيء يتم في دنیاي في ثوانٍ، وبدَت مهمَّتي غاية في السهولة. استحسنتُ أن أتجاوز الرَّجل إلى أبنائه. على من يريد أن يقتحم حصنًا، أن يبحث عن موضع ضعفٍ في سوره. في هذا ضمانٌ لمأساةٍ أفجع وأشد. واندلَعتْ في قلبي النشوة التي تسبق العمل، لكنها ارتطَمتْ بشيءٍ ما. يا للسرعة ويا للغرابة! شيءٌ ما كرائحةٍ مجهولة المصدر. تراجعَت النشوة كالموجة المتقهقرة عن الساحل وسقطت في الفتور؛ فُتورٌ كأنه الإحباط، وكأنما أخجل من نفسي لأول مرة في تاريخي العريق. تردَّدتُ ولم أكن أتردَّد أبدًا، أحجَمتُ ولم أكن أُحجم أبدًا، ما لذَّتي في معركة، النَّصر فيها جالب للسخرية والهزيمة مُحقِّقة للعار؟ كلا يا إبليس، ما هو بالفتور فقط لكنه الزُّهد. لم أُصادِف تجربةً كهذه من قبلُ. سأتركُكَ يا سيد محمد لشأنكَ وظروفكَ أنتَ وأسرتكَ المُعذَّبة، لستَ سعيدًا فتُحسد ولا أنت متحدٍّ فتُستفَز. لا أحد يُحبكَ. لا أحد يعطفُ عليك. يُضمِرون لك الشر، ويُبيِّتون لك أسوأ النوايا. إني تاركُكَ، سأُتابع أخباركَ من بعيد. ستظلُّ في حياتي نقطةً سوداء، وإذا سُئلتُ يومًا عنكَ أَجبتَ :
-- هذا الرجل زهَّد إبليسَ في القيام بواجبه.
تمت ...
تحليلنا
عمنا محفوظ هنا بجرة قلم وقول واحد يجرد الشيطان من الدور المزعوم المنسوب إليه، وكأني به يؤكد أن الشر، تلك المعضلة التي حيرت الفلاسفة والمصلحين، حيث تساءلوا جميعا: من يقف وراء الشر؟!، وكيف يسمح الله بوقوعه؟! إلى أن تصدى لها بعبقرية منقطعة النظير، زراديشت، ليظهر شيئا فشيئا مفهوم الشيطان، فلقد كان الشر في الديانات القديمة نتيجة لغضب الآلهة، واستمرت اليهودية كذلك فالرب يغضب في التوراة ويعاقب نتيجة لغضبه، ثم نتحصل على عزازيل في المسيحية، إلى أن يتبلور الشيطان في صورته الكاملة في الإسلام.
محفوظ أشار ضمن ما أشار إلى تساقط الجماعات والطوائف، وتلك إشارة دالة، لم يقف عندها فحسب، فإن كان انقسام الناس إلى الجماعات والطوائف وما ينتج عن ذلك من صراع بغيض كله شر يذهب محفوظ لأن إبليس لم يكن له في ذلك من دور، وهو من كانت مهمته أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، فإذا به ليس في حاجة إلى بذل أدنى جهد، وإن كان الأمر كذلك في الأزمان الغابرة، فإن فنون الشر وحيل المكيدة قد تطورت تطورا جعلت إبليس نفسه في حاجة إلى التدريب والتعلم، فهو يجهل هذه المجالات الجديدة التي يصبح هو نفسه فيها تلميذا، فلم تكن تلك المجالات الشريرة موجودة، على ما يشير محفوظ، في تلك الفترة التي أرهص فيها زراديشت بهذا المخلوق المنسوب له معضلة الشر تلك، فهو في حاجة إلى التمرس على الخطابة والتصريحات، مجالات جديدة لوقوع الشر، بل ويدرس الاقتصاد والسياسة، وأكثر من ذلك يلم بالعلم والتكنولوجيا، والمقاولات والعمولات ووسائل الهرب للخارج، والمجال الثقافي تلك المجالات التي كانت سببا كبيرا من أسباب انتشار الفساد التي كانت بواكيرها في النصف الأخير من حياة محفوظ الممتدة، وكل هذه المجالات هي جديدة على إبليس ويبرع فيها الإنسان ويستخدمها، فإن لم يغير الشيطان وسائله العتيقة، وكأني بمحفوظ يؤكد على أن الثبات وعدم الالتحاق بوسائل العصر كفيل بأن يقتل كل إبداع، حتى عند الشيطان ذاته، الذي حتما سيُغْلَب على أمره إن اكتفى بما لديه من وسائل قديمة، ومن ثم يفقد مسوغات وجوده، هذا الذي نزعم أنه ينسحب على الجميع، فما ينسحب على إبليس بما يملكه، حسب العقائد المختلفة، من قدرات، فمن باب أولى أن ينسحب على الإنسان - الفرد والجماعات -المحدود القدرات بالمقارنة بإبليس.
ومع كل هذه السوداوية التي تخبرنا بها القصة على لسان إبليس الصادق هنا، فإننا لا يمكن أن نعدم هذا البريق الذي يمثله محمد زين - لاختيار الاسم دلالة على ما نذهب- والذي اختار له أن يكون قاضيا، ولعل في ذلك ما يعزز بقاء الأمل في الحصول على شيء من العدل.
لقد صور لنا محفوظ القاضي محمد زين تصويرا ليس من المستحيل وجوده في الحياة، فكلنا تقريبا يرى هذا النموذج الذي يبعث على الأمل وسط هذا الكم الهائل من العبث في الحياة، ورغم الفساد الذي يزكم الأنوف فإذا بنموذج دائما يظهر على السطح يريح أفئدة هؤلاء المعذبين في هذا الجو الخانق من فساد متراكم، وعلى الرغم من ملامح التمرد عند الزوجة وعدم الرضا عند الأولاد الذين حرص محمد زين على تربيتهم تربية صالحة، ليستمروا كخيط للخير في ذلك الثوب الشرير، وهذا السخط عند الزوجة وملمح التمرد وعدم الرضا عند الأولاد لم يكونوا ليمروا مرور الكرام على إبليس والذي كاد أن يعد خطة ليدخل منها إليهم، ولكنه في مفارقة دالة يزهد في القيام بمهمته الأصيلة التي خلق من أجلها، وكأني بمحفوظ يؤكد على أن ما وصل إليه حال الإنسان يدعو للشفقة حتى من إبليس، ليؤكد أيضا أن الشر متأصل فينا، بل يذهب هنا إلى أنه المسيطر، ولسنا في حاجة إلى من يوسوس لنا لنفعل هذا الشر.
من القصص ذات الدلالات الواضحة في أدب محفوظ، فلا أظن أنها في حاجة إلى جهد جهيد للوصول لمرامي الكاتب الفذ، إلا إذا، وهذا وارد، قد فاتنا شيء كثير.