دينا شرف الدين تكتب ”لغة العصر”
و حيث أن لكل عصر لغته و مفرداتها التي تعكس واقع و درجة رقي و مستوي ثقافة هذا العصر ، إذن فتلك اللغة و ما تحتوي عليه من مفردات هي بمثابة مرآة حقيقية لهذا الواقع.
و شئنا أم أبينا ، قبلنا أو رفضنا الإعتراف بأن اللغة السائدة بهذا الزمن ما هي الا انعكاساً حقيقياً لتراجع الأخلاق التي تحكم المجتمع من خلال مجموعة القيم و العادات و التقاليد التي تشكل بالنهاية سلوك الناس بهذا المجتمع.
فقد سادت بالعقود الأخيرة مفردات لغوية و طريقة أداء غريبة علي الشارع المصري ، و باتت مألوفة متداولة بين الناس و علي رأسهم قطاعات الشباب و المراهقين في مختلف الطبقات الإجتماعية، و التي يغلب عليها الطابع شديد الشعبية ، و الذي لم يقتصر فقط علي طبقات اجتماعية معينة بل تحول الي لغة عامة دارجة علي لسان الجميع بكل مكان ، و كأنه طوفان من البذائة و السوقية المغلفة بإساءة الأدب و الخروج علي القوالب الراقية المهذبة بفجاجة مدهشة.
حتي إنه:
أصبحت هناك فورمات من المفردات و طرق الأداء التي اجتاحت مجتمعات الشباب بجنسيه ، و التي حولت هذا القطاع أو غالبيته إلي نسخة واحدة مشوهة ،علي شاكلة ( قلب اخوك، يا اسطي، يا زميل ، ) و غيرها الكثير.
و بما أن الفنون هي أيضاً مرآة و انعكاساً حقيقياً للمجتمع ، تؤثر فيه و تتأثر به في علاقة تفاعلية ، فقد غلبت تلك المفردات اللغوية أيضاً علي معظم الأعمال الفنية ، من دراما لغناء ، لمزيداً من الترسيخ لهذه المفردات التي اجتاحت المجتمع لتغير شكله و تعبث أيضاً بمضمونه .
لدرجة أن:
هناك من الأطفال و الصبية الذين يسكنون المجمعات السكنية التي من المفترض أنها راقية، يتحدثون بهذه المفردات الغريبة بشكل مخيف ، قد شاهدته مرات ، ليستوقفني و يضعني بحيرة من أمري في محاولات من التفكير في كيفية حل هذه الأزمة التي ضربت أجيالاً لتخرجهم من منظومة الأخلاق المصرية التي كانت مضرب الأمثال .
إذ باتت ضرورة حتمية ، العمل علي إعادة صياغة مصادر تشكيل الوعي التي تحاصر هذه الأجيال بهذا التشوه الأخلاقي ، و التي كما نعلم تنقسم إلي مصادر مباشرة و علي رأسها التعليم و الخطاب الديني،و أخري غير مباشرة علي رأسها الفنون بمختلف أشكالها و يضاف عليها مؤخراً المستجد الأشد تأثيرا و هو السوشيال ميديا.
و بما أن (الفنون )هي أهم موارد الوعي الغير مباشر
فكما نعلم أن الفنون المختلفة بداية من المسرح و الشعر و الأدب و الموسيقي و الغناء و التصوير و العمارة انتهاءً بالسينما كسابع أنواع الفنون و أحدثها إلي جانب الدراما التليفزيونية ، ذات تأثيرات بالوجدان و الوعي شديدة القوة ، وتكمن تلك القوة بعدم مباشرتها .،
إذ أن تذوق الفنون عندما تكون متسقة تتسم بالجمال و قوة المعني و دقة التنفيذ ، و جمال المفردات اللغوية ، سواءً كانت مقطوعة موسيقية أو لوحة تشكيلية أو تصميم معماري أو فيلم سينمائي أو قصيدة شعر أو عرض مسرحي أو مسلسل تليفزيوني ، تصبح له قدرة غير عادية علي اقتحام مشاعر ووجدان هذا المتلقي و التأثير بها تأثيرات متعددة قد تشكل وعياً مختلفاً أو تعمقه و توضحه حيال فكرة أو موضوع ما.
و للفنون المختلفة قدرة سحرية علي ترسيخ و تأصيل قيم أخلاقية و جمالية لتتفوق علي غيرها من مصادر تشكيل الوعي الأخري .
فقد تمكنت الدراما من خلق القدوة المتمثلة بشخص البطل الشعبي و القومي في عدد كبير من الأعمال السينمائية و التليفزيونية ، و الذي يخترق القلوب و يخلق مريدين يؤمنون به و بما يحمله من قيم و سلوكيات ، سواء كانت شخصية هذا البطل تاريخية حقيقية أو محض خيال مؤلف ،
لكن ما أود قوله أن هذا المؤلف لم يكن يخلق بأوراقه ملامح الشخصية التي تقود ملحمته التاريخية أو روايته الإجتماعية دون دراسة جيدة و قصد من وراء قصد أن تحمل هذه الشخصية من الرسائل و القيم ما يصيب قلوب و عقول المتلقين ليرسخ بداخلهم قدوة بعينها بما تحمله تلك القدوة من أخلاقيات و توجهات و سلوكيات لابد و أن تكون حميدة نافعة ، فتؤتي أكلها و تحقق أهدافها و تحدث التأثيرات المطلوبة دون توجيه أو مباشرة ، فتؤثر بوعي أجيال بعينها و تحدد لهم معاييراً أخلاقية تحكم المجتمع بشكل عام لتشكل أطراً للوعي المعياري المبني علي قيم و تقاليد و أعراف يلتزم بها الجميع و من يخرج عليها فقد خرج عن المقبول و المألوف .
و كما نعلم جميعاً أننا بمصر كنا ننفرد بأرقي و أسمي الفنون بمختلف أنواعها و ألوانها ما امتد لعقود طويلة ، قبل أن تضربنا بالعشرون سنة الماضية موجات متتالية من الركاكة و الأعمال التجارية الفارغة من أية قيمة أو محتوي ، ذات اللغة السوقية أو بمعني أدق البيئة و التي تأتي و تذهب لتحدث أثرين لا ثالث لهما ،
*إما أن تمر مرور الفراغ الذي يصيب بالملل ثم يذهب أدراج الرياح و هذا في حالة عدم الضرر،
*و إما أن يحدث تأثيرات سلبية شديدة الخطورة في تشكيل وعي أجيال بعينها تمت محاصرة مداركها ووعيها بكافة أنواع الرداءة .
و غالباً هذا ما حدث بغفلة من الزمن تلك التي صاحبت منحني الهبوط الذي بلغ أدناه بعقدين من الزمان اتسما بالفساد و التدني بكل شئ و علي كافة المستويات،
و ما ان انتبهت الدولة و قيادتها لمدي خطورة الفنون بمختلف ألوانها علي وعي و سلوك الأجيال الحالية التي افتقدت بحق القدوة و معايير الخلق و الجمال ، حتي شنت حملة منظمة متوازية لإعادة إحياء الفنون الراقية التي انتبذت ركناً خفياً لتتواري به ،
و تعيد تشكيل منظومة الإعلام و الدراما باختلاف انواعها لتنقذ ما يمكن إنقاذة و تمحو آثار سنوات من الضلال قد أضلت أجيال قد تلوثت أسماعهم و أبصارهم و باتت قدوتهم البلطجي الشعبي الذي يحمل من القيم السلبية و الموبيقات ما لا يصدقه عقل ، هذا الذي قد حل محل البطل القومي بسنوات التضليل و الضلال .
أخيراً و ليس آخراً :
بانتظار عودة تدريجية نتمني أن تكون سريعة للفنون المصرية الراقية بما ستعود به من قيم أخلاقية و جمالية و إنسانية و مفردات لغوية لتطهر مدارك أجيال قد تلوثت و تغيبت و افتقدت القدوة و الحق و الخير و الجمال و تعيد تشكيل وعيها علي أسس سليمة و تعيد صياغة لغتها بغية الإرتقاء ، أملاً في أن يتخذ المنحني طريقاً جديداً آمناً للصعود .


















