مذكرات مهاجر مجهول (15)

بقلم/د.أشرف يعقوب

و كان عليً ان اقدم الدراسة التي اجريتها في خلال هذا العام الاول من دراسة الدكتوراة امام مجموعة من اساتذة القلب من جامعات مختلفة في ايطاليا و كان مكان التقديم هو قاعة من قاعات جامعة بولونيا. جامعة مدينة بولونيا هي اقدم جامعة، بالمعنى الحديث، في العالم. 
كان علي ان آخذ اوتوبيس ثم مترو من كوربتا الي محطة قطارات ميلانو المركزية ثم آخذ قطاراً آخر الي مدينة بولونيا و كان علي ان استيقظ في الثالثة و النصف صباحا لكي استطيع الوصول الى قاعة جامعة بولونيا في التاسعة صباحا حيث كان مقررا ان يبدأ اللقاء مع الاساتذة. 
و في الرابعة خرجت من شقتي لاجد، و لدهشتي، رجل في منتصف الخمسينات يخرج من الشقة المقابلة لشقتي من الناحية الاخرى من الحوش. و كان يبدو في غبشة الفجر الضبابية كشبح يخرج من مغارة. و دهشت لاني لم اره حتى ساعتها مطلقا و كنت اعتقد ان هذه الشقة فاضية لا يسكنها احد. فصبحت عليه و عرفته بنفسي و ركبنا معا اول اوتوبيس في الرابعة و النصف الذاهب الى ميدان لوريتو. و في الطريق حكى لي حكايته. كان هذا الرجل يعيش وحده بعد ان انفصل عن زوجته و اولاده الذين يعيشون في  ضاحية بالقرب من ميلانو اسمها "رو" بعد ان تركوه  في هذه الشقة الباردة التي كان يمتلكها. و لكني سألته "لماذا لم ألمحك حتى الآن رغم طول الفترة التي قضيتها هنا؟".
قال لي انه يعمل في فينيسيا ، في صناعة الزجاج المنفوخ في مورانو (الجزيرة المعروفة بمعامل الزجاج المنفوخ بالقرب من فينيسيا). فقلت له "و لكن مورانو علي بعد اربع ساعات بالقطار من هنا" فرد عليّ انه يذهب و يعود كل يوم و ان هذه هي حياته التي تعود عليها. وعند عودته يذهب الى سريره فورا وينام حتي الثالثة و النصف صباحا و يعيد الكرة هكذا طوال ايام الأسبوع ثم في نهاية الاسبوع يذهب صباح السبت لشراء ما يلزمه من السوبرماركت ثم يأكل و ينام طوال الباقي من العطلة الاسبوعية. فقلت له "ما هذه العيشة الهباب، لماذا لم تجد شقة في مورانو او فينيسيا او مستره؟. قال انه لا يريد ان يترك شقته التي هي ملكه و فيها كل ذكريات حياته، و انها بالقرب من اولاده الذين يعيشون مع امهم في الرو. فقلت له "و هل يأتون لزيارتك؟. قال "لا،  ابدا، و لكني احس بقربهم لي، و اذا عشت في فينيسيا سوف اشعر بالوحدة الشديدة و شوف افتقد اولادي بدرجة لا احتملها". ففكرت ان اقول له انت خلاص فقدت اولادك في كل حال، و لكني فضلت ان لا اقول له شيئا فهذا الرجل كان يعيش على املٍ  وحيد و هو ان واحداً  من اولاده قد يحن عليه يوما و يأتي لزيارته من الرو القريبة من كوربتا ، امّا إذا  ذهب للعيش في فينيسيا البعيدة  فأولاده لن يفكروا في زيارته ابدا حسب اعتقاده. فقلت له "اترك العمل في فينيسيا و ابحث عن عمل هنا". قال "لا، عملي هو ايضا فني و هوايتي و لا استطيع ان اتركه ابدا".
و تعجبت من حال هذا الرجل المسكين الذي يقضي ١٠ ساعات في المواصلات يوميا و ينام بالكاد ٤-٥ ساعات، و هو في الحقيقة فنان يحب عمله كصانع لتماثيل رائعة من الزجاج المنفوخ و التي تباع لسياح فينيسيا و تصدر الى كل مكان في العالم. 
و عرفت هنا معنى "احياء النوم" في المدن الاوروبية الصناعية الكبرى. هي احياء توجد خارج المدن و يعود اليها  العمال اخر اليوم للنوم فقط، و بالطبع كانت في غاية القذارة و تعاني من اهمال في كل المرافق. 
و لم ارى هذا الرجل بعد ذلك و لو لمرة واحدة رغم انه جاري.
تركته في محطة ميلانو و في قلبي غصة من مرارة لم ارد ان احسها في صباح ذلك اليوم الذي اقدم فيه عمل السنة امام اهم اساتذة القلب في ايطاليا.
و كانت القاعة غاصة بالاطباء و الطلبة و لكن الله وفقني ان اقدم بحثي بصورة جيدة رغم اني لا احب التكلم امام الجمهور. و رغم هذا ففي كل مرة اتكلم أمام الجمهور اتكلم بصورة جيدا جدا حتى انني اكاد لا اصدق نفسي ، و لكني ادفع ثمن هذا قبل الكلام بحالة من القلق، بل و الذعر الشديد. 
و قد حدث انني كنت في مؤتمر اطباء القلب العرب الأول  الذي عقد في عمان في الاردن سنة ١٩٩٠. و كانت هذه اول مرة اقدم فيها بحثا امام الجمهور. و حدثت لي مفاجاة رهيبة اذ انني اكتشفت وضع اسمي كرئيس جلسة من جلسات الموتمر و كأني واحد من كبار اساتذة القلب في العالم العربي. 
طبعا خفت جدا و انا اتخيل منظر الناس و هم يروني شاباً عمره ٣٢ سنة، و لم اكن اخذت حتى ماجستير القلب، و هو يرأس جلسة يحاضر فيها جهابذة طب القلب في احسن جامعات العالم العربي و اوروبا و امريكا. فكرت كثيرا و فكرت في الانسحاب ، و لكن لم يكن هناك وقت لذلك و الجلسة كانت هي الاولى في الصباح. و لم انم طوال الليل و راجعت شرائح محاضرتي و راجعت في ذهني، فلم يكن معي كتب و لا حاجة، كل الموضوعات التي سوف يتحدث فيها الثلاثة محاضرون الآخرون، و حضرت بعض الاسئلة لكل واحد منهم، و توكلت على الله.
حضرت مبكرا و جلست على رأس طاولة الجلسة و رتبتها و وضعت امامي ورقة كتبت فيها كل ما توصلت اليه في تفكيري طول الليلة الليلاء التي قضيتها مفنجل العينيين. 
و حضر المحاضرون الاجلاء و بدات الجلسة بالكلمات التي كتبتها على الورقة لا احيد عنها. كانت مقدمة للجلسة و مقدمة لكل محاضر ، و بعد كل محاضرة كنت اسأل الحضور القاء  الاسئلة ثم اسأل السؤال الذي حضرته لكل محاضر. و الحمد لله انتهت المحاضرة على خير. و لكن مدير المؤتمر طلبني لمقابلته بعد الجلسة في بهو مبنى المؤتمرات. قال لي ان بعض الحاضرين عتب على ادارة المؤتمر كيفية وضع شاب مثلي على رأس محاضرة مهمة مثل هذه. و كان يعتب علي انني لم اخبره قبل المحاضرة، قائلا انه كان يظنني الدكتور يعقوب المصري الشهير في جراحة القلب في لندن. قلت له كيف تظن هذا و اسم الدكتور اللندني هو مجدي يعقوب و ليس أشرف يعقوب. فضحك و قال عموما ربنا ستر و قدرت تقدم الجلسة بصورة جيدة، فقلت له انني دفعت ثمن هذا ليلة طويلة لم أغمض فيها عين. 
و كان هذا المؤتمر صراحة مهرجاناً فوق واقعياً يظهر فيه  بوضوح مدى صعوبة الوضع العربي في تلك السنين. كانت اللغة الرسمية للابحاث العلمية في المؤتمر  هي الانجليزية ، و لكن الاخوة من الجزائر و المغرب قدموا بحوثهم باللغة الفرنسية ولم نفهم منها شئ. و كان الجزائريون بالذات يتكلمون الفرنسية فيما بينهم و معنا كانوا يتكلمون عربية تقريبية مكسرة جدا لا تفهم منها شئ، و هو ما صدمني جدا. فسألت احداهن "هل درستم اللغة العربية في المدارس؟"، قالت "نعم و معظم المدرسين كانوا مصريين". فقلت "لما لا تتكلمون العربية اذن؟". ردت ان اللغة العربية لغة "صعبة جداً" و انها تنفع فقط في اداء الشعائر الدينية الاسلامية.
و هنا أدركت ان الجزائر لديها مشكلة كبرى، مشكلة هوية، و انها تترنح بين تيار ديني يعتبر اللغة العربية من اساسيات الهوية الوطنية ، و تيار علماني يعتبر الفرنسية لغة اساسية لتقدم المجتمع الجزائري. و توقعت مشاكل كبرى في هذا البلد. و فعلا و بعد شهور قامت الحرب الاهلية في الجزائر و كانت في غاية التوحش و العنف كما عرفت بعد ذلك من شاب و شابة جزائريان كانا يعملان بالصحافة في الجزائر في جرائد تصدر باللغة الفرنسية.  استضافتهما في بيتي بعد هروبهما من الجزائر خوفا من الجماعات الاسلامية و كانا  يتحدثان معي بالفرنسية و كانا يرفضان التحدث بالعربية.
 و ترحمت في سري على المليون و نصف شهيد جزائري الذين قتلوا في ثورة الجزائر التي اشتعلت بسبب تمسك الشعب الجزائري بهويته العربية. و كما قال لي شاب جزائري قابلته في فرجوس في فرنسا " اننا قلنا للمستعمر اخرج من بلدنا و لكن خدنا معك الى بلدك من فضلك" 
و كان السوريون يقدمون محاضراتهم الطبية باللغة العربية ، و لم نكن نفهم شيئا ايضا لأن تعبيراتهم و مصطلحاتهم العربية الطبية لم تكن معروفة لدينا. و سوريا هي البلد الوحيد الذي يدرس فيه الطب باللغة العربية. 
و كان العراقيون موجهون بحيث ان يكون هدف وجودهم في المؤتمر هو الدعاية لصدام حسين. و قال احدهم مفتخرا امام الجميع ان صدام "اجدع" من جمال عبد الناصر و "ايه يجي عبد الناصر في امجاد المغوار صدام". 
و بعد انتهاء المؤتمر ذهبنا نحن المصريين في رحلة منظمة لمشاهدة المعالم السياحية في مدينة عمان الجميلة و ما حولها. و عند توقفنا في احد المطاعم سمعت أمرأة تتكلم بالايطالية و معها وفد سياحي ايطالي. و لم تكن ايطالية الاصل لانها كانت تتكلم بلكنة اجنبية ، قد تكون من اوروبا الشرقية. و يبدو انها كانت تعرف العربية ايضا و فهمت اننا من مصر من لهجتنا. و سمعتها تقول لوفدها  بالايطالية  "ماذا يفعل المصريون هنا؟" و قالتها باستهزاء واضح. و كان من سوء حظها انني كنت افهم و اتكلم الايطالية احسن  منها و لم استطع السكوت فقلت لها بالايطالية "لماذا تستغربين و جود وفد سياحي مصري؟". قالت انها تعيش في الاردن منذ فترة طويلة و لم ترى الا مصريين فقراء جدا. فقلت لها ان مصر دولة كبيرة جدا و ان فيها فقراء و اغنياء و منهم اغنياء يمكن لهم شراؤك و شراء اللي خلفوكي و شراء الشركة العالمية التي تعملين بها. كان كلامي مفاجئة سيئة لها و مفاجئة لطيفة للايطاليين الذين كانوا معها و الذين اثنوا على لغتي الايطالية بشدة. اما هي فقد لمت الوفد بسرعة و ذهبت لركن بعيد من المطعم تفاديا لتدهور المناقشة اكثر من هذا.