صوت الصدى
علاء سحلول المصريين بالخارجبقلم : د.صلاح شفيع
إن للجمال صوتاً ، وهل هناك أجمل من الجميلة ماوية ؟ لهذا يتنافس فيها المتنافسون ، وهي قد وضعت شرطها :
ـ أنا لأحسنهم شعراً وأسخاهم يداً ..
ولا يبقى في السباق إلا ثلاثة ، شاعر وجواد وطموح : النابغة وحاتم الطائي والنبتي ، ويذبحون ويطعمون الناس ، فالجميلة قد اشترطت أن تتزوج أجودهم وأشعرهم ، وفي المساء تستضيفهم الجميلة على مائدتها ليقول بعد الطعام كل منهم قصيدته . وهكذا جلس الثلاثة إلى المائدة ، وقدم الخدم طبقاً واحداً لكل واحد منهم عليه ملاءة بيضاء ، يرفع كل منهم الغطاء ، فيجد حاتم في طبقه طعاماً طيباً ، لكن لم يكن الآخران كذلك ، فقد وجد كل منهما في طبقه الذيل ، وبعض اللحم الردئ .. وانتفض الاثنان :
ـ هذه إهانة !
تظهر ماوية ، فيتسمر الثلاثة في أماكنهم لشدة جمالها ، وقوة شخصيتها. تقول لهما ..
ـ فيم غضبكما ؟
ـ إن كانت تريدين حاتماً فهذا شأنك ، لكن للناس أقدارها ، فكيف نضاف عندك بأخس اللحوم.
ـ لكنى لم أقدم لكم شيئاً من عندي ، لقد تنكرت بالأمس ، وجئت كل واحد منكم على حده أستطعمه مما ذبحه للناس ، فأعطاني حاتم أجود ما ذبح ، وأعطيتماني من الذنب . وكنت قد عزمت أن أقدم لكم ما تعطونني .. فكل منكم أمامه ما أعطى ، ليس هذا طعامنا ، بل تلك صوركم التي رسمتموها بأنفسكم ، أطباقكم مرآة لكم ، فلينظر كل منكم إلى صورته جيداً .. فلتكن إهانة يا نابغة .. وأنت يا نبيتى ، فهل لى دور فيها .. تلك بضاعتكما ترد إليكما ..
أطرق الاثنان خجلاً ..
ـ إن حاتماً أكرمكم .. ووالله إنى لأعلم أننى لو أظهرت نفسي لكما لحصلت على أجود ما عندكما .. لكنَّ الكريمَ ما كان كريماً باطنا ظاهراً .
حُكِيت القصة بطريقة أخرى ، فقد طلب الملك من وزرائه الثلاثة أن يحمل كل منهم كيساً ويذهب إلى بستان القصر ، فيجمع للملك من طيبات الثمار والزروع ، فالأول أخذ كيساً كبيراً ، وجمع أفضل وأجود الثمار ، أما الثاني فكان يدري أن الملك لا يريدالثمار ولا يحتاجها لنفسه ، فلم يهتم بالانتقاء ، وملأ الكيس فحسب حسبما اتفق . أما الثالث فملأ الكيس بالحشائش والأعشاب وأوراق الشجر . أما الملك فلم ينظر إلى الأكياس فعلاً ،لكنه أمر بسجن كل واحد منهم في سجن منفرد مع كيسه لمدة ثلاثة أشهر ، وكل واحد يأكل من كيسه ، فأما من اتقن عمله ، فقد لاقى إحسانه ، فأكل أطيب الثمار ، والثاني عاش في ضيق لأنه كان يستبعد الثمار غير الجيدة في كيسه ، وأماالثالث فمات جوعاً .
القصة الأخيرة يمكن أن تجعلها رمزية ، فيكون كيسك هو عملك الذي يصحبك في قبرك . وأنت الآن في الحديقة تجمع الثمار التى تحتاجها في سجنك . فأى مسلك تسلك ؟ وأي وزير منهم تكون ؟
الدنيا مرآة تعطيك ما تعطيها ، واقفةً إن كنت واقفاً ، وإن ضحكت فالمرآة ضاحكة ، الدنيا مرآة لك ، فكن لها الصورة التى تحب أن تراها . يحكى أن حكيماً مضى بابنه في واد عميق تحيطه جبال شاهقة ، فتعثر الطفل وسقط على ركبته صارخاً بصوت مرتفع : آآآآه ، فسمع من أقصى الوادي من يشاطره الألم :آآآآه .. صرخ الطفل متعجباً : من أنت ؟ فسمع القائل يرد عليه : من أنت ؟ قال له : أنا الذي أسألك ؟ سمع الآخر بنفس الحدة والجفاء : أنا الذي أسألك ؟ ولما اغتاظ الصبي : وقال له : أنت جبان ! إذ بالآخر يقول له : أنت جبان !
سكت الصبي ونظر إلى أبيه ، الذى صاح هو الآخر وقال : إني أحترمك ، فسمع الصوت يقول : إنى أحترمك ، نظر الأب مبتسماً لابنه ،وأكمل : أنت رائع يا عزيزي .. فسمع القول نفسه . وهنا التفت الأب لابنه : يابني هذا هو الصدى .. يكرر لك ما تقوله ، لكنه تجسيد للحياة . التى ستقدم لك عطاءك ، فإن قلت :أنت جبان ، ستسمع الإهانة ، وإن قلت أنت رائع : ستسمع الثناء.
ولو كل فرد قبل أن يفعل أي فعل تذكر قولة الحبيب محمد صلي الله عليه وسلم : كما تدين تدان ، وأيقن أن كل فعل مردود عليه ، وعليه قبل أن يفعله أن يسأل نفسه أمستعد لاستقباله إن أُلقِى عليك كما تلقيه على غيرك ؟ وقتها غالباً ستحجم عن أفعال ستضايق غيرك ، وقطعاً كانت ستضايقك لما تردُّ إليك .. هذا هو العقل ، يحمي نفسك من نفسك ، ولهذا قيل إن أحد مبادئ العقل التي تميز العاقل بحق أن يسأل نفسه : ماذا لو حدث العكس ؟؟ ثمة مفكر كان ينكر البعث ، ثم قال لنفسه ؟ ماذا لو كنت على خطأ ؟؟ إن من يؤمن بالبعث لو كان على خطأ فلا مشكلة معه ، لأنه لن يُبَعث ، فماذا عني أنا ؟؟ ماذا لو كنتُ مخطئاً وكان هناك بعث ، إذن لذهبت في مصيبة ! هنا عدل عن عناده ، وقال : بل أستعد له ، فإن لم يكن موجوداً .. فلا ضير ، وإن كان موجوداً .. كنتُ مستعداً ..
ولو أن الذين كذَّبوا الأنبياء قالوا لأنفسهم : ماذا لو كنا على خطأ ؟؟ وكان هذا النبي الذي نكذِّبه نبياً فعلاً ؟؟ إذن لنجوا . هناك أناسٌ أمسكوا العصا من المنتصف ، بعض رهبان نجران جاءوا للنبي صلي الله عليه وسلم يجادولونه في شأن عيسى عليه السلام ، فقال لهم تعالوا للمباهلة .. ندعو أنفسنا وأولادنا ونساءنا ، ونبتهل فنجعل لعنة الله علىالكاذبين .. أي أنتم تقولون شيئاً ، وأنا أقول شيئاً ، ولا سبيل للالتقاء ، فتعالوا نحكم الله بأن ينزل لعنته على الكاذب منا .. الرهبان لما رجعت إلى نزلها ، قالوا لأنفسهم : لعل الرجل نبي .. فتصيبنا اللعنة .. فذهبوا إليه وقالوا له :
ـ لا حاجة لنا في اللعنة .. لك أو لنا .. اكتب لنا عهداً .. وندفع لك الجزية !
لقد نجوا وقتها من حلول اللعنة المؤكدة لأنهم طبقوا المبدأ الصحيح .
لقد كتب الله أن يكون للصوت صدى ، هو صورة طبق الأصل من الصوت ، وأفعالنا صوت لنا ، سترد إلينا . هل يمكن أن تقف في مرآة وتبصق فيها ؟ لا يمكن طبعاً ، فالحياة مرآة تعكس لنا وترد علينا ما نقدمه لها . ضحكة بضحكة أو بصقة ببصقة . فانظر ما تحبه لنفسك وافعله مع الآخرين . بني . الغد مزرعة اليوم ، وأنت كما يقول المثل العربي لا تجني من الشوك العنب ، فإذا أردتَ أن يكون حصادُك عنباً ، فلا تزرع شوكاً .
كان محمد بن عبد الملك الزيات يقول : ما رحمتُ شيئاً قط ، وإنما الرحمة خورٌ في الطبيعة وضعف في البنية . وتمر الأيام ويأمر المتوكل بقتله ، ويضعه في تنور حديد ، فقال : ارحموني ياهؤلاء ، قالوا له قولته : الرحمة خور في الطبيعة وضعف في البنية . حقاً !! الأيام دول .
ثمة امرأة كانت تصنع الخبز لأسرتها كل يوم، وتصنع رغيفاً إضافياً لأي عابر سبيل جائع ، وقد نال الرغيف رجل فقير أحدب ، وتعوَّد في كل يوم أن يمر بالمكان ليجد رغيفه ، لكنه لم يقل أبداً شكراً ، بل كان يأخذ الرغيف وهو يقول : ” الشرالذي تقدمه يبقى معك،والخير الذي تقدمه يعود إليك!” .تضايقت المرأة لجحود الأحدب ، وأصبحت تقدم له الرغيف وهي مستاءةٌ منه ، فلما لم يغيّر موقفه ، قررت أن تضع في الرغيف مسهلاً شديداً عقاباً له . وأيضاً تناول الرغيف منها وهو يكرر قولته المعتادة ،وانصرف وهو لا يدرك سعادة المرأة الخفية بالاقتصاص منه .
في هذا اليوم يرجع ابنها الغائب من وقت طويل ، ملابسه شبه ممزقة ، يعاني من إسهال شديد ،
ـ ماذا حدث لك يابني ؟
ـ كنت عائداً بعد أن فقدت محفظتي مشياً على الأقدام ، أصابني الإنهاك ، فقابلت رجلاً أحدب يحمل رغيفاً ، رجوته أن يعطيني جزءاً منه ، وكان الرجل طيباً ،فأعطاني الرغيف كله ، وقال لي : هذا طعامي كل يوم ، لكنك اليوم حاجتك أكبر من حاجتي . لكني لا أدري ماذا حدث لي من بعد ما أكلت ، إسهال مستمر ، أكاد أموت .. ربما لأني أكلته على جوع شديد ..
أيقنت المرأة معنى كلام الأحدب ، وأن الشر الذي قدمته ، بقى معها ، في ابنهاالعائد . لكنها في الوقت نفسه حمدت الله أنه لم يكن سماً . وبدأت تعالج ابنها ، وهي واثقة في شفائه لأن الخير الذى قدمته كل يوم للأحدب لابد أن يعود إليها .
أيها الصغير .. ما أروع رسمك !
هكذا قالت الأم لصغيرها وقد رأته أبدع على لوحته الصغيرة :
ـ ماذا رسمت يا صغيري ؟
ـ رسمت بيتي عندما أكبر .. هذه غرفتي ، وتلك غرفة الأطفال ، وهذا المطبخ وتلك الحديقة ..
ـ وما هذا المربع الصغير في الحديقة ؟
ـ هذه غرفتك يا أمي ..
ـ ولماذا وضعتني في الخارج ؟؟
ـ ألم تضعي جدي في الخارج حتى لا يزعجك بصراخه ، أنا أيضاً سأضعك في الخارج لكي لا تزعجينا بصراخك ..
وقتها رآت شين فعلها ، فهرعت على الفور إلى أفضل غرفة في البيت ، وأفرغتها لأبي زوجها ، وهكذا احتاطت لنفسها مما هو قادم يقيناً في الغد .
لذلك لما كنتُ في صلاة الجنازة ، قال الإمام ، اخلصوا في الدعاء للميت كأنه أنتم .. من يومها تعودتُ أن أخلص الدعاء ، لأحظى يومها بمن يخلص لي الدعاء !
أراد أن يقدم لزوجته هدية جميلة تعجبها ، فكان لابد أن تختارها بنفسها ، وهذا يفسد المفاجأة ، لذلك صحبها إلى محل الهدايا ، وقال لها : أريدك أن تختاري لأمي أجمل هدية حسب ذوقك . الهدية لها ، وهي لا تدري ، وهي التي ستختار ، نيتها هي من ستختار لها ، فلو أحبت الخير لحماتها لفازت بالخير ، ولو أضمرت البخل واختارت شيئاً قليلاً ، فقد بخلت على نفسها ، لو تحركت مشاعرها السلبية ، وأرادت أن تبخس الأم ستختار أقل هدية قيمة ، ولو تحركت مشاعرها الإيجابية ، ورأت في حماتها أمها ، ستختار أعلاها قيمة .. المهم هي سترجع تحمل هدية عبارة عن نيتها ، لأنه في المساء ، لن يفتح زوجها الهدية ، بل سيقدمها كما هي لها .. تفضلي يا حبيبتي ، لم أجد أجمل من هدية تختارينها بنفسك .
ثمة قصة شهيرة للكاتب الإنجليزى تسمى “صورة دوريان جراى” ، تحكى عن رجل كان يفعل ما يريد ولا تظهر أفعاله على وجهه ، بل يظل وجهه ملائكياً ، في حين تظهر حقيقته على صورة له ، هي المرآة الحقيقية له ، ومضى دوريان جراي يفعل ما يريد ، ويخدع الناس بوجهه الملائكي ، حتى دخل في يوم إلى المخزن حيث توجد صورته فوجد صورة بشعة لا تحتمل ، هى وجهه الحقيقي ، فلم يحتمل أن ينظر إليها فمزقها بسكين ، وهنا ظهرت صورته الحقيقية على وجهه ، لتفر الناس منها مذعورة .
القصة مفاداها أن صورتك الحقيقية قد لا تكون تلك الصورة التى تطل من وجهك . بل ربما هناك في مكان آخر ما ينطق بالوجه الحقيقي لك . إن الصورة الحقيقية لمقاول غش في مواد البناء ، أو رجل أعمال أدخل أغذية فاسدة لبلده ، أو مجرم حرب ارتكب مذابح ضد المدنيين ـ هذه الصورة الحقيقية ليست التى وضعها في حجرة جلوسه ، تحمل ابتسامة بريئة وبدلة أنيقة ، وليست التى تطل من جريدة في إعلان جميل أو تبرع في نواحى الخير ، لكنك يمكن أن تراها في هؤلاء الضحايا الذين وقعت العمارة فوقهم ، وفي هذه الأجساد الزرقاء التى أهلكتها الأغذية السامة ، وفي تلك المقابر الجماعية التى احتوت على عشرات المئات من الأبرياء .
عندما أنظر إلى صورة الرئيس هارى ترومان تقفز إلى عينى صورة أخرى هى صورة ضحاياه في هيروشيما ونجازاكى ، وعندما أنظر إلى صورة الملك فاروق تقفز إلى عينى صورة أخرى هى ما أحدثته الأسلحة الفاسدة . إن صورة دوريان جراي هى الصورة الحقيقية للإنسان لأنها ترجمة لأفعاله وليست ترجمة لشكله وثيابه . فأين صورة النائب أو المسئول عن مدينة مثل مدينتنا التى أشعر أنها قطعة من العصر العثمانى في القرن الثامن عشر ؟ هل هى صورته التى يراها في المرآة قبل أن ينزل ويركب سيارته ؟ أم هى الصورة المليحة التى يرسمها له من حوله ؟ لا شك أنه سيرى صورة ملائكية ، لكنها ليست صورته الحقيقة ، فإذا أردنا أن نرى صورة دوريان جراي ( الوجه الحقيقي للمرء) فلنذهب إلى المخزن ، ونرى صورته التى تحمل أفعاله ، والمخزن ليس بعيداً، وليس خفياً ، إنه مكشوف في الهواء الطلق . هذه الصورة هى صورة المدينة التى سيادته مسئول عنها ، فإن كانت مثل مدن كثيرة تجسّد الصورة المثلى للإهمال والتخلف وتتميز بصورة قاتمة تظهر في سوء طرق ، وزبالة في كل مكان ، وظلام ، وماء غليظ يحتوى على أشياء أخرى ، وإهمال لكل مشاكلها . فتلك هي صورة دوريان جراي الحقيقية . وهى صورة بشعة لرجل اختارته بلده ليعبر عن همومها فباعها لصالحه الشخصى ، وهو أمر مؤسف أن نجد كبيراً يبتلع بلده ، في حين يستعد جندى صغير أن يموت من أجلها .
عزيزى دوريان جراي ، كما تحرص على الظهور بأناقة تفوح منك الرائحة الطيبة ، ويهل النور من وجهك الجميل ، وأن تبدو متسع الصدر ، سوى الكلام ، فإن العيون ترى لك صورة أخرى في أرض بلدك ، فهلا جعلتها في أناقتك ونورك ونظافتك . لو تأكدت أن بلدك مرآتك وصورتك الحقيقية ، يقيناً لن تهملها كما هى الآن .
كان اثنان في واحد ، هو شخص واحد نعم ، لكن له وجهان ، الأول ماجن يستبيح حرمات الآخرين ، والثاني شيخ يحرص أشد الحرص على حرماته ، لا مانع عنده أن يعرف أي فتاة حتى لو كانت أخت أعز أصدقائه ، لكن لا يسمح لأحد من أصدقائه أن يعرف شيئاً عن أخته ، وإذا استضاف أحداً ، فالبيت في حالة طوارئ ، ويجب أن يدفن الجميع رأسه حتى يخرج الضيف . أكان بذلك يحافظ على أخته فعلاً ؟؟
إن الحفاظ على عرضك ليس أن تحفظ أختك أو زوجتك في قمقم ، فهذا لا يحميها ، بل الوسيلة الوحيدة للحفاظ عليها أن تحافظ على أخريات الآخرين ليحافظوا لك عليها .
ثمة فتاة شديدة الجمال ، كأن الاحترام الذي تظهر به أمام محيطها الذي يعرفها (مسك) بمجرد أن تطمئن أنها في مكان لا يعرفها فيه أحد حتى تبادر بخلع المسك ، وهكذا كانت اثنتين ، كأنها تعيش حياتين ، خطر في بالها أن تكرر قصة السندريلا في فيلم شروق وغروب ..
وهكذا كانت تعرفه ، لكنه لا يعرفها ، اتصلت عليه ، ولأنها البادئة ، فقد تم التعارف سريعاً ، وعرض عليها أن تقابله في مكان عام ، قالت بدلال :
ـ الناس تراني !
ـ إذن في الشقة .. !
لعله تفاجئ لما لم ترفض ، وقالت ..
ـ والله فكرة .. ! الشقة مناسبة وغير مناسبة ، مناسبة لكي لا يراني أحد ، وغير مناسبة لأننا سنكون وحدنا ، إلا أن وعدتني أن تكون مؤدباً ..
كان ثمة اختلاف بينها وبين السندريلا في الفيلم ، أن سعاد حسني ( مديحة ) كانت متزوجة ، وكان الوقت المتاح للعب من وراء زوجها الليل ، لأن زوجها لا يحضر إلا في الصباح ، أما هي فهي غير متزوجة ، والوقت المتاح للعب من وراء أهلها بالنهار ، الكلية ، ومحاضرات متأخرة ، وكورس بعد الكلية ، ومواصلات زحمة .. كما أن القناع أو المسك يلعب دوراً كبيراً في عدم القلق منها ..
كانت تتذكر الفيلم وهي تركب الأسانسير ، البطلة مديحة كانت كانت ابنة باشا ، لا تمانع أن تتسلى ، أعجبها أن تتقمص شخصية بنت الأكابر ، ابتسمت لما تذكرت مصير السندريلا ، لما نزل رشدي أباظة ليحضر لها شمبانيا بعد أن أغلق عليها باب الحجرة ، وباب الشقة حتى لا تخرج ، فتضربه سيارة ، وينقل إلى المستشفى ، ويجن جنونه ، يريد أن يفتح لها لترجع إلى بيتها قبل أن يرجع زوجها في الصباح ، يحافظ على حياتها الظاهرية ليقابلها بعد ذلك كما يشاء ..
تعالوا بنا نتخيل تلك الفتاة وقد انتابتها رغبة التوحد بالجميلة مديحة في هذا الفيلم ، تصر أن يذهب رشدي ليأتي بشمبانيا ، يقول لها : أنت جميلة وسهلة ،لكني سأغلق عليك حتى لا ترحلي .. تبتسم بلا مبالاة وتقول له ..
ـ ـ آه .. وتصدمك سيارة .. وتعمل لي رشدي أباظة .. !
ـ متزوجة ؟
ـ نعم ! ولا كنت فاكرني بكراً ؟؟
ـ أنا أحب المتزوجات ! لكن ..
ـ لكن ماذا ؟؟
ـ أشعر كأنك تعرفينني ولا أعرفك ، كأنك امرأة أحد أصدقائي ..
ـ آه .. ويهبط علينا .. وتبقى فضيحة !
ـ لا ، اطمئني .. لا أحد من الشلة يقتحم على الآخر موعده .. نحن في أمان !
ـ إلا أن ضربتك سيارة ، ورحت المستشفى ، وأرسلت زوجي .. يطلعني من هنا !
ـ على فكرة أنت جميلة مثلها ..
ـ من ؟ سعاد !
ـ نعم !
ـ ألن تأتي بالشمبانيا ؟؟؟
ـ طيارة !
كانت مستمتعة بدور السندريلا ، وحتى لما تذكرت المصير البشع وسمير زوج السندريلا يجرجرها شبه عارية ، ويركبها السيارة ، وهي تستحلفه ألا يفضحه ، ثم يرمي بها عند أقدام أبيها الباشا ..
ـ بنتك طالق يا باشا .. أحضرتها من سرير أعز أصدقائي !
ـ أنا موافقة على كل ذلك .. لكن .. أبقى بنت باشا .. !
تعالوا بنا نتخيل أن رشدي لم يرجع بالشمبانيا ، وعمل حادثة فعلاً ، لكنه أصاب رجلاً وسيق إلى قسم الشرطة ، وهو يتمتم منها لله ، فولت علينا ، تريد أن تتوحد بالسندريلا ، وها قد توحدت أنا برشدي ، ستظل السندريلا محبوسة في البيت .. ماذا يفعل ؟؟ أيرسل لها أحد أصدقائه ، فتكون امرأته .. وتكتمل المأساة فعلاً ، إذا طلعت زوجته ، ويتكرر المشهد سين هذه المرة في الحياة ، وهنا تفتق ذهنه أن يختار صديقاً غير متزوج ، يدري أنه دون جوان ، وأنه لا يمكن أن يترك هذه الفرصة ، وهي غالباً لن تقول لا ، لأنها ربما من تريد ذلك .. لما حكي له القصة ..
ـ غروب وشروق .. السندريلا ..
ـ لا تضيِّع الوفت .. تبقى في فمك وتقسم لغيرك ، حلال عليك .. يا ابن المحظوظة !
ـ وهي ؟
ـ إنها من النوعية التي لا تقول لا أبداً لأي أحد ، يا بني هى من اصطادتني .. !
لابد أنها نامت .. لما انتظرت طويلاً ، وفتحت عينيها مع فتح الباب ، فلا تجد زوجها لأنها ليست متزوجة ، لكن لتجد أخاها .. !
ـ يا بنت الكلب .. أنتِ !
لا تسأل عما حدث ! أسيقتلها ؟؟ الحقيقة إنه إن يقتلها لا يضيف جديداً ، فقد قتلها من زمن ، لقد صنع جداراً ووضعها وراءه ، واطمئن أن لا أحد يصل إليها ، ولم يدر أن الجدار قد يمنع من يحاول أن يتسلقه ، لكن ماذا عنها هي ؟ ماذا لو تسللت من وراء الجدار ؟ هذا ما حدث منها ، لقد سعت بنفسها لترمي نفسها في شباك صديقه دون أن تعرفه بنفسها .
هي وصلت هنا ، لأن أخاها استدرج أخرى إلى هنا ، هي تعرت في انتظار أي أحد ، لأنه كان لا يرحم أية فتاة حتى لو كانت أخت أعز أصدقائه .. هي بهذا العري لأن العري صوته ، وهي صداه ، لم يكن يقتلها حين يقتلها ، بل يقتل نفسه ، ولم تنزف دماً أسود ، هو من نزف ، كان يسيل منه كل دماء الآخريات ، لأول مرة يقف أمام مرآته ، فلا يرى إلا كوم قمامة ، لا يحتمل أن يرى صورته البشعة التي لم يرها بتلك البشاعة إلا لما حصل على مرآة حقيقية .. دوريان جراي لما رأى صورته التي كانت تستقبل قبائحه ، لم يحتمل رؤيتها ، انهال على اللوحة بالسكين يمزقها ، لكن هل تمزيقها يغير من الأمر شيئاً ، هي صورته ، وقد رآها ! هل لما فقأ أوديب عينيه .. اختفت الحقيقة ، أم مازال يراها ؟؟
ما ظلمته ، لكنه ظلمها مرتين ، ما كانت إلا بضاعته ترد إليه .. ولعله لو كان عفاً لكانت في أمان دون أي جهد منه . فما نساؤنا إلا مرآة لأفعالنا ، فمن أراد أن يصون عرضه فليحافظ على عرض الآخرين .. ثمة امرأة لما رجع زوجها إلى البيت .. قالت له :
ـ ناشدتك الله ألا صدقتني ؟ ما الذي فعلت اليوم من الذنوب ، أقرصتَ كتف امرأة ؟ فدهش الرجل وقال : نعم ، من أين علمتِ ؟
قالت : قد قُرص كتفي .
كانت هبة الله طالبة في الصف الأول الجامعي ، وذهبت في رحلة إلى مواقع أثرية ، وجاء وقت الرحيل ولم تنتبه ، كانت ترسم ما تراه ، رجعت متأخرة ، وضلت طريقها إلى مكان الحافلة .. ووجدت نفسها في مكان منقطع .. لابد أن الحافلة انتظرتها طويلاً ، ولما لم ترجع ، مضت .. أخذت تسير وهي خائفة ..
كان ثمة خوف على أبيها لما لا ترجع إليه ، لكن كان هناك خوف آخر شغلها عن هذا الخوف ، أنه الليل ، ولا تعرف أحداً . ازدادت خوفاً وهي تسمع صوت الذئاب ، ثم رأت كوخاً صغيراً ، وفرحت .. ومنَّت نفسها أن تجد أباً مثل أبيها .. لكنها لم تجد إلا شاباً .. قصَّت عليه قصتها .. ولسان حالها يستحضر قصة العذراء مريم :
ـ إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً .. !
ـ حسناً نامي .. وفي الصباح أساعدك على العودة .. نامي أنتِ على السرير ، وأنا سأنام على الأرض .. !
كانت خائفة جداً ، لا تصدق أن يأتي عليها اليوم لتنام هي وشاب لا تعرفه وحدهما في مكان منقطع ، لو صرخت مهما صرخت لن يسمعها سوى الذئاب .. أيمكن أن يكون هذا الشاب يوسف ، فلا يقربها ؟ لعله من الممكن ألا يفعل خطيئة .. لكن .. وجودها معه .. قد يشجع من لا يفكر في خطئية لها .
مازالت حتى الأن في آمان ، لكن الليل طويل ، ولابد أنه غير متعجل ، فأنى لها الهرب منه ، أينتظر حتى تنام ؟؟ يجب إذن ألا تنام ، لكن هل يقظتها ستحميها لو أرادها بسوء ؟ لا نجاة لها منه إلا به .. وهو يقرأ .. تحت ضوء شمعة .. ثم يطفأها بإصبعه ، ويرجع ثانية فيشعلها ويعاود القراءة ، ثم يطفأها مرة أخرى بنفس الطريقة ..لقد احترقت أصابعه .. أيكون من الجن ؟؟
في الصباح لم تصدق نفسها ، وهو يمضي بها ويركبها الحافلة .. فلما عادت إلى البيت حكت لأبيها كل القصة .. لقد تعودت أن تقول له كل شيء ..
ـ قبل الأب جبين ابنته ..
، الحمد للرب على رجوعك سالمة ..
ـ والله يا أبي ..
ـ هبة .. لا تقسمي .. ما كان ليحدث لك شيء .. أنا واثق فيك ، وواثق قبلك في الله .. سلي أمك ..ماذا قلت لها ؟
ـ قال .. ابنتي ستجد عملي .. !
ومن فوره مضى الأب إلى الشاب ، يريد أن يعرف لماذا كان يفعل ذلك ؟ رأى أصابعه الخمسة ملفوفة بقطع قماش .. فسأله الأب :
ـ ماذا حصل لأصابعك ؟؟
ـ بالأمس حضرت إلى فتاة تائهة وباتت عندي ، وكان الشيطان كل مرة يأتيني فأقرأ كتاباً لعل الشيطان يذهب عني ، لكنه لم يذهب ، فأحرق إصبعي لأتذكر جهنم ، ثم أعود إلى النوم فيأتنيني الشيطان مرة أخرى ، فعلت ذلك حتى أحترقت أصابعي الخمسة ..
ـ أتعرف من أنا ؟؟
ـ أبوها ؟؟
ـ نعم .. ولن أجد خيراً منك زوجاً لها ..
ـ يا الله .. !
إننا نطعم نياتنا ، وهذا الشاب صان نفسه عن الحرام ، فأبدله الله به حلالاً . وهاهو أمير قد خرج للصيد ، فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي ، فطلب منه ماء ، فقال الصبي ليس عندنا ماء ، فقال : ادفع لي رمانة ، فدفعها إليه ، فاستحسنها فنوى أخذ البستان ، ثم قال له : ادفع لي أخرى ، فوجدها حامضة .. قال :
ـ أليست هي من الشجرة نفسها ؟
ـ بلى ..
ـ كيف تغير طعمها ؟
ــ لعل نية الأمير تغيرت ، فرجع عن ذلك في نفسه ، ثم قال : ادفع لي أخرى فدفع إليه ثالثة .. فوجدها أحسن من الأولى ..
ـ كيف صلحت ؟
ـ بصلاح نية الأمير ..